د. سمر أبو الخير

د.سمر أبو الخير تكتب: المتحف المصرى الكبير بوابة عبور ذوى الهمم للتاريخ

كتبت\هبه عبدالله

فى البهو الواسع، حيث يرفع المتحف المصرى الكبير رأس مصر عاليًا أمام العالم، لم تكن أول قصة تستحق أن تُروى عن الذهب والتماثيل والعرش والفرعون، بل كانت قصة أم بسيطة اصطدمت بابتسامة الأمل لأول مرة في هذا المكان.

أمٌّ قضت سنوات تُخبئ قلقها خلف ابتسامة مطمئنة، تمسك بيد طفلها على استحياء في الأماكن العامة كي لا يلتفت الناس إلى صوته العالي أو حركته المفاجئة، أمٌّ كانت كلما أرادت أن تُخرج ابنها المصاب بطيف التوحد أو بتأخر في النطق والكلام، سَمِعَت نفس العبارات القاسية المجللة بالشفقة: “خليه في البيت أحسن له”، “الزحمة هتتعبه”، “هو مش هيستحمل”… تلك الجُمل لم تكن نصيحة بقدر ما كانت أمرًا غير معلن بالعزل.

هذه الأم ذهبت أخيرًا، على استحياء، إلى المتحف المصري الكبير بصحبة ابنها المبتلى باضطراب نمائي، بعد أن قال لها الطبيب: “جربي بيئة بصرية غنية، يمكن يستجيب”.. لم تكن واثقة من النصيحة، ولكنها ذهبت.

وهناك أمام تمثال الملك رمسيس الثاني الضخم، وتحت ضوء بهو صُمم ليحكي تاريخ دولة كاملة، حدث ما يشبه المعجزة الصغيرة، الطفل الذي لم ينطق صوتًا واضحًا منذ شهور رفع عينيه وهمس، ثم كرر، ثم أعلن بتركيز ودهشة: “مَلِك… مَلِك… مَلِك”.

في لحظة واحدة، لم تعد الأم تسمع ضجيج القاعة ولا وقع خطوات السياح ولا الشرح الأثري، سمعت شيئًا واحدًا: صوت ابنها، فانهمرت دموعها، وارتجفت يداها، لأنها للمرة الأولى لم تبكِ من العجز والقهر… بل بكت فرحًا خالصًا.

هذه اللحظة ليست مشهدًا عاطفيًا عابرًا في يوم مزدحم بالتصوير الرسمي، هذه لحظة تعلن معنى أكبر أن المتحف المصري الكبير لم يُبنَ فقط ليعرض مجد الحضارة المصرية القديمة، بل ليكسر عزلتنا الحديثة عن أبنائنا المختلفين، هذا المتحف يمكن – ويجب – أن يتحول من صرح عرضي إلى فضاء للعلاج والتأهيل والدمج لأطفالنا من ذوي القدرات الخاصة، وخاصة أطفال طيف التوحد، وأطفال تأخر النطق والكلام، فهؤلاء لا يحتاجون شفقة إضافية، بل يحتاجون فقط أن تقول لهم الدولة والمجتمع معًا: “نراك.. مكانك معنا.. ادخل”.

ولمن يقفون اليوم خلف هذا الحدث التاريخي، من مسئولين في الدولة، وإدارة المتحف، والوزارات والهيئات الشريكة نقول: أنتم لا تفتتحون مبنى ضخم التكلفة فقط، أنتم تفتحون قلوبًا كانت مغلقة، وتعيدون الأمل حيث ساد اليأس، أنتم، للمرة الأولى، ترسلون رسالة رسمية تقول إن الطفل الذي لا يتكلم كما يتكلم الآخرون، أو لا يتحرك كما يتحرك الآخرون، ليس مدعوًا للشفقة… بل مدعوًا للحضور.

هذه ليست زيارة ترفيهية هذه لحظة اعتراف، لحظة أم لا تشعر بالخجل، وطفل لا يشعر بالغربة، ودولة تقول: هذا المتحف ليس واجهة سياحية لمصر أمام العالم فقط، هذا المتحف بيت كل طفل مصري… حتى الذي لم يجد كلماته بعد.
إن هذا المتحف قد يصبح نقطة تحول في دمج الأطفال ذوي القدرات الخاصة – وفي مقدمتهم أطفال طيف التوحد، وأطفال تأخر النطق والكلام، والأطفال ذوو متلازمة داون، والأطفال ذوو الإعاقات الحركية والبصرية، طبقاً للدرايات الأكاديمية العاليمة، وهو ما يستلزم تهيئة المتحف بما يناسب إمكانيات المعاقين ذوي القدرات الخاصة، وهذا يعني منحدرات حركة مهيأة للكراسي المتحركة، وممرات ومداخل واسعة تسهل الحركة دون ارتباك، وإمكانية الإعارة الفورية لكرسي متحرك بدل إحراج الأسرة، وعربات تنقل لتقليل الإجهاد البدني على الأهل والطفل، ومصاعد مزودة بإرشاد صوتي يخاطب الزائر ضعيف البصر باحترام، ودورات مياه مهيأة، ونقاط استراحة موزعة على طول المسار لتهدئة فرط التحفيز الحسي الذي يعانيه كثير من أطفال طيف التوحد.

والأهم من ذلك، توفير مجسمات ونماذج لمسية مصحوبة بكتابة برايل، تسمح للطفل ضعيف البصر أو الكفيف ألا يقف متفرجًا خلف خط أحمر، بل أن يعانق التاريخ بيديه.

وهنا يجب أن نسأل: ما معنى “العلاج” و”التأهيل” و”الدمج” في سياق المتحف؟

الأطفال ذوو طيف التوحد، والأطفال الذين يعانون تأخر النطق والكلام، لا يكتسبون اللغة داخل غرفة مغلقة فقط، بل في الموقف الحي، فعندما يقف الطفل أمام رأس ملكي عملاق، أو نموذج لمركب الملك خوفو، ويُطلب منه أن يشير، أن يصف، أن يختار بين صورتين، أو أن يكرر كلمة بسيطة مثل “ملك” أو “مركب”، فهو لا يتدرب على اللفظ من أجل اللفظ، بل يستخدم اللغة ليمسك بالعالم من حوله، وهذا ما يُعرف في علم اضطرابات التواصل بمبدأ “التواصل الوظيفي” أي أن تتحول اللغة من درس إلى أداة حياة.

والأجمل أن الجلسة هنا لا تبدو جلسة علاج، بل تبدو حياة طبيعية، ليست جلسة أخصائي وطفل تحت الفحص، بل تفاعل اجتماعي صغير، مرشدة آثار تسأل سؤالًا مبسطًا، أم تنتظر بترقب، طفل آخر يجرب الإجابة، ثم يأتي دور الطفل الذي يعاني صعوبة في المبادرة الكلامية.

هذه البيئات العامة المنظمة والآمنة نادرًا ما تتوفر في المدرسة التقليدية، لكنها ممكنة جدًا داخل المتحف، هكذا يصبح المتحف غرفة علاج نطقي كبرى، لكن بكرامة، وبجمال، وبدون وصمة.

ثم نصل إلى الجوهرة التربوية التي يجب الدفاع عنها “متحف الطفل” هذه ليست قاعة محاضرات للأطفال، هذه مساحة تعليمية حية صُممت على مستوى عين الطفل، لا على مستوى عين البالغ، الفكرة ليست أن تقول له “هذه حضارة عمرها خمسة آلاف سنة”، بل أن تجعله يبني، يلمس، يعيد تركيب مشهد من حياة المصري القديم، يدخل تجربة بصرية وسمعية ولمسية رقمية وواقعية في زمن قصير يناسب قدرته على التركيز، الهدف المعلن لهذه المساحة ليس “إلقاء درس ثقيل”، بل “إشعال الفضول”.

والفضول، عند طفل يعاني طيف التوحد أو طفل يعاني تأخرًا لغويًا، ليس رفاهية تربوية، بل إن الفضول هو مفتاح الدخول إلى العالم المشترك، عندما يندهش، يشارك، وعندما يشارك، يحاول التعبير، وعندما يحاول التعبير، يبدأ صوته في الظهور.

وهناك مستوى آخر لا يقل أهمية وهو مهارات “الحياة اليومية” فأطفال طيف التوحد، وكذلك كثير من الأطفال ذوي تأخر النطق، يحتاجون ما يسمى بمهارات الحياة اليومية مثل: الوقوف في صف التذاكر دون انهيار عصبي، الانتقال من قاعة إلى قاعة باتباع تعليمات الشخص المسؤول عن الجولة، طلب الاستراحة بهدوء بدل الصراخ، تحمل وجود غرباء على مسافة قريبة دون شعور بالتهديد، الإجابة عن سؤال مباشر بصيغة بسيطة (“إنت شايف إيه؟”) ثم العودة للهدوء، هذه ليست تفاصيل صغيرة؛ هذه شروط الاندماج الفعلي في المدرسة، في النادي، في المجتمع.

إن المتحف المصري الكبير يوفر بيئة آمنة لتدريب هذه المهارات من دون عقاب، من دون إحراج، من دون أن تشعر الأم أنها “تختبر هل ابنها طبيعي” هي فقط تدربه على أن يكون حاضرًا، معترفًا به، داخل المجال العام.

كل هذا يقودنا إلى نتيجة واضحة أن ما يجري في المتحف المصري الكبير ليس “افتتاح مزار سياحي جديد”، بل إعلان معيار أخلاقي جديد، أن مصر لا تعرض ماضيها الذهبي فقط، بل تعرض شكل المستقبل الذي تريده، مستقبل تقول فيه بوضوح إن التراث ليس حكرًا على النخبة، ولا على مَن يتحرك بسهولة أو يتكلم بطلاقة، والتراث مساحة تعليم وتأهيل وكرامة.

عند هذه النقطة فقط نستطيع أن نقول إن المتحف المصري الكبير لم يُبنَ ليعرض مومياوات وكنوز ملوك مصر القديمة فحسب، بل ليعرض شكل المجتمع الذي نريده نحن لأولادنا الآن، مجتمع يعترف بأن الطفل الذي لا يتكلم بطلاقة، أو لا يحتمل الضوضاء، أو يحتاج كرسيًا متحركًا ليتنقل بين القاعات، ليس زائرًا ثقيلًا على الحضارة المصرية، بل أحد ورثتها الشرعيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *